كتب ناثان ج. براون أن إسرائيل، بعد موجة من التحركات العسكرية التي شملت غزة وسوريا ولبنان وحتى ضربات ضد إيران، تقف أمام نقاش استراتيجي داخلي يعكس انقسامًا عميقًا. هذا النقاش لا يقدم حلولًا واقعية، بل يكشف عجزًا عن رسم طريق سياسي أو دبلوماسي قابل للحياة.
يؤكد تقرير مؤسسة كارنيجي أن المزاج العام يتأرجح بين نشوة الانتصارات العسكرية والإحساس بالغرق في مستنقع غزة والعزلة الدولية.
لكن خلف هذه المشاعر يظهر صراع بين خيارين استراتيجيين:
- الأول يراهن على القوة العسكرية الدائمة لتأمين إسرائيل
- والثاني يحاول إحياء مسار أوسلو ومبادرة السلام العربية، ولكن بصورة باهتة لا تتناسب مع الواقع
الخيار الأول: “سلام إسرائيلي” بلا سلام
يصف براون مقاربة المعسكر الأول بأنها "حرب إلى ما لا نهاية". فإسرائيل لا تكتفي بمواصلة تدمير غزة وبنيتها التحتية، بل توسع تدخلاتها في الضفة الغربية وسوريا ولبنان. الجيش الإسرائيلي قصف مواقع سورية في 2025 بزعم حماية مناطق عازلة كان قد سيطر عليها منذ عقود. هذا النهج، القائم على التحرك العسكري المستمر، يرسخ فكرة أن الأمن الإسرائيلي لا يتحقق إلا عبر ضربات استباقية متكررة.
على الجبهة الفلسطينية، أوقفت إسرائيل أي تعامل مع الفلسطينيين كجماعة وطنية، وركزت على تفتيت المجتمع الفلسطيني. استهدفت السلطة الفلسطينية كما استهدفت حماس، وخنقت حكومة رام الله ماليًا بما يتناسب مع ما يسمح به الدعم الأمريكي. في القدس، شددت قبضتها على المؤسسات التعليمية الفلسطينية، وفرضت المناهج الإسرائيلية على الطلاب. في غزة، حوّلت المدن إلى أنقاض، وجمعت السكان في مخيمات ضخمة بلا أفق زمني واضح.
هذا النهج منح إسرائيل تفوقًا عسكريًا ملحوظًا، إذ نجحت في اغتيال قادة حزب الله وتدمير قدرات عسكرية سورية، بل ونفذت هجومًا طالما لوحت به ضد إيران. غير أن هذه الانتصارات تولد قلقًا إقليميًا من أن إسرائيل تتحول إلى قوة منفلتة أكثر منها قوة مهيمنة. دول الخليج التي وقعت اتفاقيات أبراهام بدأت تتساءل إن كانت شراكتها مع إسرائيل ستقودها إلى الاستقرار أم إلى عزلة.
الخيار الثاني: الحنين إلى أوسلو
يقف معسكر آخر في إسرائيل ليطرح خيارًا مختلفًا. شخصيات سياسية وأمنية سابقة، إضافة إلى مثقفين، يشددون على أن الانتصارات العسكرية وحدها لا تكفي. هذا التيار يدعو إلى إحياء الدبلوماسية، وإعادة طرح فكرة فصل المسارين الإسرائيلي والفلسطيني، وحتى تشكيل تحالفات إقليمية أوسع ضد إيران والجماعات الراديكالية.
لكن هذا الخيار يبدو عاجزًا أيضًا، لأنه يراهن على فرضيات قديمة فقدت صلاحيتها. يتحدث البعض عن إحياء مبادرة السلام العربية لعام 2002، أو عن حلول مرحلية للفلسطينيين، لكن معظم الطروحات تتجنب الاعتراف الصريح بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة. حتى التيارات التي تصف نفسها بـ"الحمائمية" تقدم رؤى غامضة، تراهن على إصلاح السلطة الفلسطينية أكثر مما تراهن على إنهاء الاحتلال.
يرى براون أن هذا الخيار يشبه "الحنين إلى أوسلو" أكثر منه خطة سياسية جدية، لأنه يتجاهل واقع أن المجتمع الإسرائيلي نفسه بات يرفض فكرة الدولة الفلسطينية ويعتبرها تهديدًا وجوديًا.
المأزق الاستراتيجي
يشير التقرير إلى أن كلا المعسكرين يقود إسرائيل إلى مأزق. الأول يفتح الباب أمام حرب دائمة بلا غطاء دبلوماسي، والثاني يستند إلى أوهام سياسية تجاوزه الزمن. وفي الحالتين، لا يجد الفلسطينيون سوى استمرار القمع أو وعود غامضة بلا مضمون.
كما يتوقع التقرير أن يفاقم هذا الانسداد الانقسام داخل إسرائيل نفسها. الفلسطينيون داخل الخط الأخضر بدأوا يرفعون أصواتهم مجددًا بعد عامين من القمع. قطاعات من اليسار والوسط تعبر عن ضيقها من حجم الدمار في غزة. حتى في الولايات المتحدة، يشير براون إلى أن أجيالًا جديدة من اليهود الأمريكيين باتت تنأى بنفسها عن سياسات إسرائيل، خصوصًا مع الجدل المتصاعد حول توصيف ما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية.
يرى براون أن النقاش الاستراتيجي في إسرائيل يعكس عجزًا مزدوجًا: خيار عسكري يفرض حربًا دائمة، وخيار دبلوماسي يستعيد أوهام الماضي. وفي ظل هذا الانسداد، تبقى الولايات المتحدة أمام سؤال ملح: إلى متى تستمر في دعم وضع غير قابل للاستمرار؟ ويخلص إلى أن تجاوز هذا المأزق قد يتطلب مبادرة دولية أوسع، شبيهة بخريطة الطريق 2003 أو مبادرة السلام العربية، لكن بجرأة أكبر واستعداد حقيقي لمواجهة الوقائع الصعبة على الأرض.
https://carnegieendowment.org/research/2025/09/israeli-military-policy-middle-east-political-realities?lang=en